يطرح مدى التنوع الغذائي في دولة الامارات، والذي يعتمد بمعظمه على الاستيراد، مدعوماً بالنمو الاقتصادي والحضاري الذي حققته الدولة خلال العقود الماضية، تساؤلاً هاماً إن تناولنا الأمر بمنظور عالمي: هل تستطيع دول العالم كافة تحقيق هذا التنوع في ظل الطلب المتنامي على الغذاء، والتحديات التي يفرضها التغير المناخي، والخسائر المتزايدة لهذا التنوع، حيث تشير الدراسات العالمية إلى ضياع 90% من تنوع المحاصيل على مستوى العالم.
وما يزيد من أهمية الانتباه لهذا التساؤل، والعمل على اعتماد سياسات وآليات ومبادرات عالمية قادرة على خلق حلول فعاله له، الصبغة التجارية التي استحوذت على القطاع الزراعي في العقود الأخيرة، حيث يركز كبار منتجي ومسوقي المحاصيل الزراعية على الترويج لمجموعة محدودة من المحاصيل التي يمكن انتاجها، وتسجل طلباً عالياً من تجار التجزئة والمستهلكين، وعلى الرغم من توفير هذه السياسة الزراعية الغذاء لفئات واسعة من المجتمع العالمي، إلا أنها تسببت في تقليص انتاج أصناف أخرى ونسيانها، والتي يمكنها تقديم قيمة غذائية عالية للمستهلكين، وخلق تنوع حقيقي في سلة الغذاء.
إن الحفاظ على تنوع أصناف المحاصيل وسلالات الحيوانات أمر بالغ الأهمية لأنه يتيح مرونة أكبر في التعامل مع تداعيات التغير المناخي مقارنة بالمحاصيل الزراعية والحيوانات التقليدية المعتادة التي يتم حصادها وتربيتها، فضلاً عن دوره المهم في الحفاظ على المنظومات التي تدعم إنتاج الطعام عالمياً. فمثلاً، يمكن للأصناف المقاومة للحرارة والجفاف في المناطق الجافة أن تنتج في مناطق أخرى أو أن تمنح مزيداً من الأفكار التي تساعد على التأقلم مع المناخ الحار. لكن إذا نُسيت هذه الأصناف وضاعت إلى غير رجعة لأسباب تجارية أو بيئية أو غير ذلك، فإننا لن نتمكن من استكشاف قدراتها الكاملة.
وبالتالي فإن التأكيد على ضرورة إطلاق مبادرات واعتماد سياسات عالمية لإعادة التفكير واستخدام هذا النوع من الغذاء المنسي، من شأنه تحقيق توازن عالمي على المدى المتوسط والبعيد.
ويمثل اجتماع "غذاء للأبد: خطوة عملية لمنظومة غذائية مرنة" الذي عقد مؤخراً في العاصمة البريطانية لندن، واستضافه صاحب السمو الملكي الأمير تشارلز أمير "ويلز"، وشاركت فيه وزارة التغير المناخي والبيئة الإماراتية، وناقش آليات التعاون ونشر الوعي حول كيفية تحقيق تنوع المحاصيل بالشكل الصحيح وإعادة الانتباه إلى الأغذية المنسية لتحقيق استدامة الغذاء عالميا، نموذجاً ناجعا وفعالاً للتحركات الدولية المطلوبة بهذا الخصوص.
وعلى الرغم من التاريخ الحافل لمجتمع الامارات في الزراعة وتربية الماشية تحقيقاً لتنوع الغذاء، إلا أن مهن الزراعة والصيد لم تعد تمثل إلا حيزاً بسيطاً من اهتمامات أبناء المجتمع المحلي، إذ تحول الأمر من الشكل التجاري الذي يعتمد عليه في الدخل، إلى شكل فردي فالبعض يتملك مزارع صغيرة تكفى للاحتياجات الشخصية فحسب، الأمر الذي تسبب في تراجع حاد في توافر محاصيل عدة مثل الاعلاف والنباتات الطبيعة وبعض الفواكه ومنها (اللوز، والنبق)، لكن على الرغم من هذا جاءت مشاركتنا في الاجتماع لتوضيح الاستراتيجية التي اعتمدتها الإمارات لخلق تنوع حقيقي في سلة الغذاء يشمل المحاصيل التقليدية والأخرى المنسية.
وتركز استراتيجية الامارات بهذا الخصوص على تحقيق تنوع في المحاصيل الزراعية، يشكل أساساً لضمان وجود نظام غذائي مستدام متكامل، وهذا التنوع يشمل ما يتم زراعته محليا أو في الاستثمارات الزراعية في الخارج، وتنويع آليات وأساليب الزراعة، بالإضافة إلى تنويع ما يتم استيراده من محاصيل ومصادر استيرادها، وإعادة النظر في منظومة التغذية في المجتمع المحلي وتوعية المستهلكين بأهمية تنويع سلة طعامهم للحصول على القيمة الغذائية الحقيقية.
وبشكل أكثر ايضاحاً وتحديداً فإننا نتطلع من الناحية الإنتاجية للاستراتيجية إلى إعادة الاهتمام بتضمين بعض المحاصيل إلى السلة الغذائية عبر تحسين وتطوير انتاجها ومنها أصناف التمور الجيدة، وتشجيع تربية النحل والزراعة العضوية، وتحديد سلالات الماشية المناسبة للتربية في بيئتنا المحلية لتوليد عوائد اقتصادية عالية. كما نعمل أيضا على حماية أنواع الأسماك المحلية المهددة بالانقراض عبر إنشاء مزارع تفريخ الأسماك التجارية وزراعة أشجار المانجروف ونشر الشعاب الاصطناعية لتعزيز بيئة تكاثر الأسماك.
وضمن هذا التخطيط المستقبلي، تم التركيز على ضرورة إيجاد محفزات لمنتجينا المحليين لتشجيعهم على اعتماد أفضل الممارسات، وتطوير الأسواق لإيجاد الطلب على المنتجات المحلية، وتعزيز البحث والتطوير وتطبيق أحدث التقنيات، وجمع التمويل الكافي وزيادة وعي المستهلكين.
وعلى مستوى التطبيق الفعلي أجرت جامعة الإمارات العربية المتحدة في العين بحثاً مكثفاً لاستزراع أنسجة نخيل التمر، بالإضافة إلى بحث آخر حول المراعي والأعلاف المناسبة لظروف دولة الإمارات، كما ارتفعت معدلات الزراعة العضوية 4 أضعاف خلال السنوات الخمس الأخيرة عما كانت عليه سابقاً، في ظل تنامي الاهتمام بالاستدامة البيئية والنظم الغذائية الصحية.
كل هذه المنظومة المحلية، بالإضافة للمشاركات والجهود الدولية لدولة الإمارات في هذا المجال، مثل مشاركة الدولة في مسابقة طهي طعام المستقبل التي أقيمت في نيويورك بالتزامن مع يوم العمل الدولي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بتاريخ 25 سبتمبر 2018، والتي شهدت إعادة اكتشاف محاصيل غير معروفة، وأسهمت الإمارات فيها بعرض تراثها الغني من التمور وإمكاناتها المستقبلية، وغير ذلك من المشاركات التي نحرص خلالها على تقديمها واستعراضها عالمياً، لطرح نموذج عملي عن التعامل الصحيح مع تحدي تناقص الغذاء عالمياً، والمساهمة في الجهود الدولية الرامية لضمان تنوع سلسلة القيمة الغذائية وتحقيق استدامتها، وتحويل شعار "غذاء للأبد" إلى واقع ملموس.
معالي الدكتور ثاني أحمد الزيودي
وزير التغير المناخي والبيئة